معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

المدرسة الأصولية عند السيد الخوئي (دراسة في نظرية التعهّد)

  • ١٠٦٣٤
  •  

الباحث : م.م صادق حسن علي العوادي


عنوان البحث :المدرسة الأصولية عند السيد الخوئي (دراسة في نظرية التعهّد)


انتضم البحث في مبحثين :  


المبحث الأول : مفهوم " المدرسة الأصولية "  : ويتضمن :


1ـ مفهوم " المدرسة  " على نحو العموم .


2ـ مفهوم " المدرسة الاصولية " على نحو الخصوص .


 


أما 1ـ  مفهوم " المدرسة  " على نحو العموم :


 


 فإنّه ليس هناك تحديداً واستعمالاً دقيقاً لمصطلح المدرسة عند قدماء ومتأخري فقهاء المسلمين عموما بل إنه من مستحدثات العصر الحديث فلذلك لم يُحدّد تحديدا قاطعا عند من استعمله ()  بل يطلق ويراد منه المعنى اللغوي وعليه اذا اطلق يتبادر الى الذهن : المكان المخصص المحاط بالبناء والذي يجتمع فيه طلاب العلم للاخذ عن العلماء على منهج معين وصورة معينة , والظاهر أنهم أطلقوها وأرادوا منها دراسة فترة معينة من الزمن في بلدٍ معين, توافر فيه علماء, درس عليهم جمع غفير من التلاميذ وقصدهم طلاب العلم من كل فجٍ, فأخذوا منهم وتاثروا بهم ونشروا آراءهم ومناهجهم واختياراتهم العلمية ودوّنها العلماء من بعد ذلك في كتبهم. 


فعلى هذا يكون إطلاق المدرسة أولاً وبالذات على المكان الذي يُدرَّس فيه ثم اُستعير على فترة زمنية معينة.  


كما عرّفت "المدرسة" : بأنّها مجموعة من الأشخاص ينتمون الى معلم واحد ويقتفون مذهبه وإن اختلفت نظرة كل منهم في نتائج تفكيره() .وبحدود هذا التعريف يظهر أن إطلاق "المدرسة" يكون على الاشخاص دون المكان .


وقد تُطلق المدرسة ويُراد منها :هي مجموعة الأسس الفكرية المنتظمة التي تتكفّل ترشيد الفكر الأصولي في مسيرة تكامله , لتحقيق الهدف المتوخّى من دراسته (), فإطلاق المدرسة هنا يكون على الأسس الفكرية المنتظمة.


ولكن كل هذه المحاولات في إيجاد تعريف لـ "المدرسة" قاصرة عن الوفاء بالمعنى الدقيق لها,ولذا ينبغي بيان الضابطة في صدق مفهوم"المدرسة "على شئٍ ما.


يُمكن أن يقال () أن الضابطة في  صدق مفهوم "المدرسة ": ان تكون لها آراؤها الخاصة ومنهجها في التفكير وطريقتها في الاستدلال.


 والذي يميل اليه البحث أن الضابطة هي : التجديد  بالآراء والمنهج.


ومما ينبغي الاشارة إليه إنّ أيَّ مدرسةٍ لا يمكن أن تأتي عن فراغ بل لابد لها من تأثّرات وإفادات من العلوم أو المدارس السابقة عليها , فتتشكّل مدرسةً ومنهجاً من التراكمات المعرفية التي انتقلت اليها عبر الزمن () , وبالتالي تكون المدرسة اللاحقة امتدادا للمدرسة السابقة () .


كما أنّ لكلِّ مدرسةٍ رائدا يمتاز بأنه :(حامل لواء ذلك الفن وأنه أصلح ما رأى من الحاجة في الفن من الاصلاح وطوّر المسائل التي كان فيها خمول أو نقصان أو إضاف بعض المسائل إليه) ().فعلى سبيل المثال يُعد الميرزا محمد أمين الاسترابادي (ت 1033هـ) رائد المدرسة الإخبارية , بينما يُعد الوحيد البهبهاني   ( ت1206هـ) رائد المدرسة الاصولية في عصره ().


 


2ـ مفهوم " المدرسة الاصولية " على نحو الخصوص : 


أما بخصوص المدرسة الاصولية فالضابطة هي الجدّة والاصالة بالمنهج الاصولي وتنقيح المباني للوصول الى الرأي الراجح منها أو الاستقلال برأي خاص قد تنفرد به عما سبقهم .


وعلم أصول الفقه على ما رجّح في تعريفه السيد الخوئي (قده) أنّه: ( العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة الى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية اليها) ().


 


يظهر مما تقدم أن للمدرسة خصائصاً ومميزات وهي :


1ـ أن تمتاز بالتجديد الفكري في جانب من جوانب العلوم المتعددة سواءً كان على مستوى الإبداع والإضافة المعرفية أم على مستوى التنظيم والتبويب والمنهج .


وليس بالضرورة أن تكون هذه الاضافة المعرفية أفقية أي بإضافة آراء ونظريات جديدة بل قد تكون الإضافة عمودية وذلك بزيادة بيانٍ وإيضاح للمطالب العلمية الدقيقة .


2ـ أن تُخرّج هذه المدرسة شخصية أو أكثر من الشخصيات العلمية التي يكون لها أثر واضح وفعّال في الساحة العلمية , وان تُثمر عن مؤلفات علمية تكون معينا للأجيال اللاحقة في مجال العلوم الإنسانية أو التخصصية الشرعية .


3ـ أن يكون للمدرسة رائدٌ أو أكثر يمتاز بالنبوغ العلمي والفكري , عليه المعوّل في أصالة وجدّة المدرسة بحيث يكون عنصر استقطاب لطلاب العلم والمعرفة .


4ـ ليس بالضرورة أن تتصف المدرسة بالإستقلالية التامة عمّن سبقتها من المدارس بل قد تكون امتدادا واستمرارا للمدرسة السابقة , لما فيها من تطويرٍ لمبانيها وجدّة في تطبيقاتها , وإن اتبعت نفس الأسس في فلسفة بنائها.


 


 


 


 


 


 


 


 


 


المبحث الثاني :  نظرية التعهد في وضع الألفاظ


      


ويتضمن مطالب عدة :


المطلب الأول : الوضع لغة واصطلاحا.


المطلب الثاني : بيان الآراء في حقيقة الوضع  .


المطلب الثالث : منشأ نظرية التعهد


المطلب الرابع : مناقشة نظرية التعهّد .


 


أما المطلب الأول : الوضع لغة واصطلاحا.


فالوضع لغةً : مصدر قولك : وضع يضع, ووضع الشيء في المكان : أثبته فيه , وقولك : وضعتها أنا ، أي : ألزمتها  فهي موضوعة , والوضع أيضا : الموضوع ، سمي بالمصدر ، والجمع : أوضاع (), وذكر الجرجاني أن الوضع في اللغة جعل اللفظ بأزاء المعنى () . 


ولهذا أشار السيد الخوئي(قده) الى أن الوضع في اللغة بمعنى :الجعل والاقرار والاثبات ().


أما الوضع في الاصطلاح : فقد اختلفت كلمات الأصوليين في تعريف الوضع إذ عُرّف تارة بأنه :( تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ) () . وتارة بأنه :         ( نحو اختصاص للفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ، ناشئ من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه أخرى ، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني ) () . وتارة أخرى بأنه :  ( نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين ) () .


أما الوضع عند السيد الخوئي (قده) فهو : ( عبارة عن التعهد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص ) ().


 


المطلب الثاني : بيان الآراء في حقيقة الوضع


 تمهيد : الدلالة الذاتية 


إن دلالة اللفظ على المعنى إما أن تكون بالطبع ـ أي بالدلالة الذاتية ـ أو بالوضع أو بهما معاً .


أما كونها بالطبع : فقد ذهب عباد بن سليمان الصيمري **وغيره ***الى أن دلالة الالفاظ على معانيها دلالة ذاتية , ونقل هذا الرأي عنه المحقق القمي  (ت 1231هـ) بما نصّه :(أن دلالة اللفظ على المعنى إنما نشأت من مناسبة ذاتية وإلا لتساوت المعاني بالنسبة إلى اللفظ فإما أن يكون هناك تخصيص وترجيح في الدلالة على المعنى أو لا, فعلى الثاني يلزم التخصص من غير مخصص وعلى الأول التخصيص بلا مخصص وهما محالان )().


وردّه المحقق القمي بقوله:إنّ المرجّح هو الإرادة إما من الله تعالى لو كان هو الواضع كخلق الحوادث في أوقاتها أو من الخلق لو كان هو الواضع كتخصيص الاعلام بالأشخاص أو بمنع انحصار المرجح فيما ذكروه ـ أي المعتزلة ـ  إذ قد يكون المرجّح شيئا آخر مثل سبق المعنى إلى الذهن من بين المعاني في غيره   تعالى , ومصلحة أخرى فيه تعالى مع أنه يدفعه الوضع للنقيضين والضدين واقتضاء اللفظ بالذات لذلك في وقتٍ دون وقت أو شخص دون شخص مما لا معنى له لان الذاتي لايتخلّف().


كما ردّ الشيخ النائيني الدلالة الذاتية المزعومة : ( بشهادة الوجدان على عدم انسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع )().


 


مناقشة السيد الخوئي :


 


جاءت مناقشة السيد الخوئي في محورين :


المحور الأول : بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى .


المحور الثاني : بطلان ما اعتمد عليه عبّاد في ثبوت الدلالة الذاتية .


أما المحور الأول : فقد بيّن السيد الخوئي بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى  وذلك بقوله (): 


إن ثبوت المناسبة الذاتية بين الألفاظ ومعانيها فهو وإن كان ممكنا في الجملة الا انه لا دليل عليها ؛ لأن هذه المناسبة بين اللفظ والمعنى إما أن تكون على نحو العلة التامة أو الاقتضاء:


فإذا كانت على نحو العلة التامة ـ والذي بموجبه يكون سماع اللفظ علة تامة لانتقال الذهن إلى معناه ـ فإن بطلانه من الوضوح بمكان لا يقبل النزاع ؛ لأن لازم ذلك تمكن كل شخص من الإحاطة بتمام اللغات ، فضلا عن لغة واحدة . 


وإذا كانت على نحو الاقتضاء ـ بمعنى أن الارتباط والمناسبة المذكورين بينهما يوجب أن يكون سماع اللفظ مقتضيا لانتقال الذهن إلى معناه ـ فإن ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتا وقابلا للنزاع ؛ إذ لا مانع عقلا من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها ، نظير الملازمة الثابتة بين أمرين ، فإنها ثابتة في الواقع والأزل ، بلا توقف على اعتبار أي معتبر أو فرض أي فارض ، وبلا فرق بين أن يكون طرفاها ممكنين ، أو مستحيلين ، أو مختلفين ، إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ().


والذي يُستظهر من كلام السيد الخوئي أنّه يرى إمكانية الدلالة الذاتية في مقام الثبوت ولكن لا دليل عليها في مقام الاثبات .


أما المحور الثاني : وهي  مناقشة  ما استند عليه عباد بن سليمان الصيمري وغيره : من انّه لولا المناسبة الذاتية  لكان تخصيص لفظ خاص بمعنى مخصوص بلا مرجح وهو محال. فقد أشكل عليه في أمرين ():


 


 الأول: انه لا يلزم أن يكون المرجح هي المناسبة الذاتية بل يجوز ان يكون المرجح أمرا خارجيا كما هو الواقع كثيرا في الاعلام الشخصية.


 الثاني : ان المستحيل انما هو المرجح من دون ترجيح واما الترجيح بلا مرجّح فلا استحالة فيه بل ولا قبح فيه أيضا إذا كان هناك مرجّح لاختيار طبيعي الفعل مع عدم وجود المرجّح في شئ من افراده وحينئذ فالمصلحة الموجودة في طبيعي الوضع كافية في اختيار لفظ خاص وتخصيصه لمعنى مخصوص ولو من دون ربط ومناسبة بينهما أصلا.


 


ومما تقدم يتبين بطلان دلالة الالفاظ على معانيها بالطبع ( الدلالة الذاتية )على نحو الاستقلال عند مشهور الأصوليين وقد وافقهم السيد الخوئي في ذلك .


 وعليه فتنحصر دلالة الألفاظ على معانيها إما بالوضع أو بالطبع والوضع معاً , والآراء في تفسيرها من قبل أعلام الاصوليين ثلاثة :


 


الرأي الأول: مسلك التخصيص والجعل الإلهي


 


وهو للشيخ النائيني ( ت1355هـ) , فقد ذهب الى أن حقيقة الوضع هو التخصيص والجعل الإلهي ـ أي بالطبع والوضع معاً ـ ؛وذلك بعد أن ذكر أن الواضع هو الله سبحانه وتعالى , وذلك بقوله :( فإنا نقطع ـ بحسب التواريخ التي بأيدينا ـ انه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة لمعانيها التي تدل عليها فضلا عن سائر اللغات , كما أن الوجدان يدل على عدم الدلالة الذاتية بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به بل الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظا مخصوصا باعتبار مناسبة بينهما ,وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الأمور التكوينية التي جُبل الإنسان على إدراكها : كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك . فالوضع جعل متوسط بينهما ، لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي ، بل يلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص )().


 


ثم عضّد الشيخ النائيني بما يؤكّد مطلبه بقوله : إنا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أي لغة لما قدروا عليه ، فما ظنك بشخص واحد مضافا إلى كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة ؟ فحقيقة الوضع هو التخصيص والجعل الإلهي ().


يتبيّن مما تقدّم :  أنّ دلالة اللفظ على المعنى عند الشيخ النائيني ليست من قبيل الدلالة الذاتية على نحو الاستقلال ,وليست هي من جهة الوضع على نحو الاستقلال أيضا, بل هي وسط بين الأمور التكوينية الواقعية والجعلية ؛ ولذلك تبنّى القول بالتخصيص والجعل ـ أي بهما معا ـ في تفسير الوضع .


 


 


مناقشة السيد الخوئي للنائيني


 


بعد أن حلّل السيد الخوئي ما أسس الشيخ النائيني في حقيقة الوضع رتّب ذلك على شكل مقدمات ثم ناقشها , والمقدمات هي ():


 الأولى : أن الواضع هو الله تبارك وتعالى ، ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال الكتب كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد ، ولا بطريق جعل الأمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها ، بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر من عناصر البشر على حسب استعداده . 


الثانية : التزامه بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني .  


 الثالثة : أن وضعه تبارك وتعالى إنما كان على طبق هذه المناسبة .


الرابعة : أن الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي . 


الخامسة : أنه بعد نفي الدلالة الذاتية استند في دعوى : أن الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم دون غيره إلى أمرين :


 1ـ أنه لا يمكن أن يكون الواضع هو البشر ، لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة فضلا عن جميع اللغات ، فإذا امتنع أن يكون البشر واضعا تعين أن الله تعالى هو الواضع الحكيم .


 2ـ على فرض أن البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها ـ  بمعنى أن شخصا أو جماعة معينين من أهل كل لغة يتمكن من وضع ألفاظها لمعانيها - إلا أنه لم يحدثنا التاريخ عمّن تصدى لهذا الوضع في أي عصر أو زمان ؛ لأنه لو تحقق لنقل لنا ذلك باعتبار أن ذلك من أهم الحوادث التي تنقل بالتواتر ويتفق على تدوينها لخطورتها من جهة ولضرورتها من جهة أخرى خصوصا وأنه نُقل ما هو أدنى منها فكيف بهذا الأمر ؟ 


 


أما المقدمة الأولى : فيظهر ضعفها مما اُعتمد عليه من الوجهين :


 الوجه الاول : وهو أن الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم : فقد تمت مناقشة هذا الوجه في محورين :


المحور الأول: لو تم أن الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم ,  فإنما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعيا وفي زمان واحد ، إلا أن الأمر ليس كذلك ، فإن سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة الغرض وضيقها . ومن الواضح أن الغرض منه ليس إلا أن يتفاهم بها وقت الحاجة ، وتبرز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلا يختل نظام حياتنا المادية والمعنوية ,وهذا الغرض الداعي إليه يختلف سعة وضيقا بمرور الأيام والعصور,ففي العصر الأول - وهوعصر آدم (ع ) - كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ قليلة بإزاء معان كذلك ، لقلة الحوائج في ذلك العصر وعدم اقتضائها أزيد من ذلك ، ثم ازدادت الحوائج مرة بعد أخرى وقرنا بعد آخر ، بل وقتا بعد وقت ، مما أدى الى زيادة في وضع الألفاظ تبعاً لذلك . وعليه فيتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغة على وضع ألفاظها بإزاء معانيها في أي عصر وزمن ، فإن سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقا . ولما كان مرور الزمن موجبا لاتساع حاجاتهم وازديادها كان من الطبيعي أن يزداد الوضع ويتسع . أما الذين يقومون بعملية الوضع فهم أهل تلك اللغة في كل عصر ،من دون فرق بين أن يكون الواضع واحدا منهم أو جماعة، وذلك أمر ممكن لهم ، فإن المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعبير عنها ليست بالمقدار الذي يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم ، فإنها محدودة بحد خاص .


 وقد تلخّص من ذلك أمران :


 1ـ  أن أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظا للمعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة في جميع العصور ليقال : إن البشر لا يقدر على ذلك ، بل يمكن الوضع بشكل تدريجي في كل عصر حسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها .


2ـ  أننا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ، فإن الوضع لما يزيد عن مقدار الحاجة لغو محض . 


وأما المحور الثاني : وهو أن الواضع لو كان بشرا لنقل ذلك في التواريخ ، لأن مثل هذا العمل يعتبر من أعظم الخدمات للبشر ، ولذلك تتوفر الدواعي على نقله , فيرد عليه : أن ذلك إنما يتم لو كان الواضع شخصا واحدا أو جماعة معينة . وأما إذا التزمنا بما قدمناه من : أن الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين ، بل كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي فلا يبقى مجال للنقل في التواريخ . نعم ، لو كان الواضع شخصا واحدا أو جماعة معينين لنقله أصحاب التواريخ لا محالة .


 وما ذُكر من تفسيرٍ للعلقة الوضعية لا يفرّق فيه بين مسلك السيد الخوئي وغيره في، فإن تدريجية الوضع وعدم اختصاصه بشخص خاص لا تدع مجالا لما ذكره الشيخ النائيني من أن الواضع لو كان بشرا لنقل ذلك في التواريخ ، غاية الأمر : أنه بناء على مسلك السيد الخوئي يكون كل مستعمل واضعا وإن كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع الأول إلا أنه من جهة الأسبقية ،وهذا بخلاف غيره من المسالك ().


 


الوجه الثاني : وهو أن الوضع وسط بين الأمور التكوينية والجعلية:  فهو مما لا يرجع إلى معنى محصل ؛ وذلك لعدم واسطة بينهما ، ضرورة أن الشئ إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أي معتبر فهو من الموجودات التكوينية ، وإلا فمن الأمور الاعتبارية الجعلية ، ولا يُعقل ما يكون وسطا بين الأمرين . 


وأما حديث الإلهام ـ وهو أن  يلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص ـ  فهو حديث صحيح ، ولا اختصاص له بالوضع , وقد ذكر السيد الخوئي في تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (): أن الله تبارك وتعالى كما منَّ على عباده بهدايتهم تشريعا ، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بإرسال الرسل وإنزال الكتب كذلك منَّ عليهم بهدايتهم تكوينا بإلهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم ، بل إن هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالهم  بطبعها أو باختيارها ، والله هو الذي أودع فيها قوة الاستكمال ، فترى الفأرة تفر من الهرّة ولا تفر من الشاة ().


وعلى الجملة : فإن مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلية ، فإن الإلهام من الأمور التكوينية الواقعية ، ولا اختصاص له بباب الوضع ، والمبحوث عنه هو معنى الوضع ،سواءً كان الوضع بإلهام إلهي أم لم يكن .


 


وأما المقدمة الثانية فيردّها : أنه رجمٌ  بالغيب ، لما قد سبق من أنه لا دليل على وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع .


 


 وأما المقدمة الثالثة فيرد عليها : أنا لو سلمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلم أن الواضع جعل لكل معنى لفظا مخصوصا على طبق تلك المناسبة ، وذلك لأن الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك ، ومعه فأي شئ يستدعي رعاية تلك المناسبة في الوضع ؟ اللهم إلا أن يتمسك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح ، والثابت بطلانها .


 


 وأما المقدمتان الرابعة والخامسة فقد تقدم مناقشتهما في المقدمة الأولى آنفاً .


 


فالنتيجة النهائية التي يراها السيد الخوئي بعد عرضه واستدلالاته ومناقشاته : أن المسألة تنتهي الى أمرين : 


 


 الأول : أن الله تبارك وتعالى ليس هو الواضع الحكيم .


 الثاني : أن الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع.


 


الرأي الثاني : مسلك الاعتبار


 


ذكر السيد الخوئي (قده) ثلاثة أنحاء للإعتبار, وهي :


 


1ـ النحو الأول للإعتبار : وهو رأي المحقق الطوسي (ت672هـ), جاء فيه :  إن حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، فهو هو في عالم الاعتبار وإن لم يكن كذلك حقيقة (). 


مناقشة السيد الخوئي


شرع السيد الخوئي في مناقشته للمحقق الطوسي بتقديم بيانٍ للتفريق بين الامور الحقيقية والاعتبارية , بقوله () : إن الموجود على قسمين :


 أحدهما : ما له وجود تكويني عيني في نظام التكوين والعين : كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض . 


والثاني : ما له وجود اعتباري فهو موجود في عالم الاعتبار وإن لم يكن موجودا في الخارج ، وذلك كالأمور الاعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام التكليفية والوضعية . 


والمحقق الطوسي يرى: أنّ حقيقة العلقة الوضعية من قبيل القسم الثاني ، بمعنى : أن الواضع جعل وجود اللفظ وجودا للمعنى في عالم الاعتبار ، واعتبره وجودا تنزيليا له في ذلك العالم دون عالم الخارج والعين : كالتنزيلات الشرعية أو العرفية، مثل قوله ( عليه السلام ) : " الطواف بالبيت صلاة "() وقوله ( عليه السلام ) : " الفقاع خمر استصغره الناس " () ونحوهما . ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آليا في مرحلة الاستعمال ، والى المعنى استقلاليا ، بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلا المعنى ولا ينظر إلا إليه . 


 


ثم أخذ السيد الخوئي بمناقشته ضمن نقطتين ():


الأولى : أن تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامة الواضعين غاية البعد ، ولا سيما القاصرين منهم : كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة ، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضا . وكيف كان ، فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهلة التناول والمأخذ ، فلا تكون بهذه الدقة التي تغفل عنها أذهان الخاصة ، فضلا عن العامة .


 والثانية : أن الغرض الداعي إلى الوضع : هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، لكي يدل عليه ويفهم منه معناه . فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة . ومن الواضح أن الدلالة اللفظية إنما تكون بين شيئين : أحدهما دال ، والآخر مدلول ، فاعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجودا للمعنى أيضا لغو وعبث .


 وأما ما ذُكر في كلام المحقق الطوسي من لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال (), ففيه : 


إن لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال ، لا يستلزم أن يكون ملحوظا كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين . وبكلمة واضحة : أن حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ، ومستعمله كمستعملها ، فكما أن صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالا من حيث  الكم والكيف والوضع ، وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آليا فكذلك وضع الألفاظ واستعمالاتها من هذه الناحية .


 وعلى الجملة : أن لحاظ اللفظ آليا في مرحلة الاستعمال لا يلازم اعتبار وجوده وجودا للمعنى حال الوضع بوجه . 


 


 


2ـ النحو الثاني للإعتبار : وهو  رأي المحقق العراقي (ت1361هـ) , جاء فيه : 


إن حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار ملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له، وحقيقة هذه الملازمة متقومة باعتبار من بيده الاعتبار وهو الواضع  كسائر الأمور الاعتبارية من الشرعية أو العرفية .وإن الموجب لهذا الاعتبار والداعي إليه إنما هو قصد التفهيم في مقام الحاجة ؛ لعدم إمكانه بدونه ().


مناقشة السيد الخوئي:


 


بيّن السيد الخوئي أن الملازمة المدّعاة بين اللفظ والمعنى تأتي ضمن احتمالين على سبيل مانعة الخلو , وهما ():    


الأول : إما أن يكون اعتبار هذه الملازمة في  الخارج : وعليه فلا تفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن ، ضرورة أن بدون الذهن لا يحصل الانتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه . وعلى تقدير وجودها وثبوتها فالملازمة الخارجية غير محتاج إليها ، فإن الغرض - وهو الانتقال الى المعنى - يحصل بتحقق هذه الملازمة الذهنية ، سواء أكانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن ، فلا حاجة إلى اعتبار المعنى موجودا في الخارج عند وجود اللفظ فيه ، بل هو من اللغو الظاهر . 


الثاني : أو يكون اعتبار هذه الملازمة في الذهن :وعليه  فإنه لا يخلو من أمرين :


 


1ـ  إما أن يكون إعتبار الواضع للملازمة بين اللفظ والمعنى مطلقا حتى للجاهل بالوضع: وهذا لا يمكن المصير إليه ؛ لإنه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم؛ لأنه لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به . ولا معنى لأن يعتبر الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ له ، فإنه إن علم بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له، وغير قابل للجعل والاعتبار ، وإن لم يعلم فالاعتبار يصبح لغوا .


 


2ـ  أو يختص إعتبار الواضع للملازمة بين اللفظ والمعنى تختص بالعالم بالوضع :  وهذا لا يمكن المصير إليه أيضاً ؛ لأنه تحصيل للحاصل ؛ فإنه لو كان عالما بالوضع كان اعتبار الملازمة في حقه من قبيل : إثبات ما هو ثابت بالوجدان بالاعتبار وبالتعبد .


 وعليه : فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلة للجعل والاعتبار ، وليست  من معنى الوضع في شئ ، بل هي مترتبة عليه .


 


3ـ النحو الثالث للإعتبار : وهو رأي المحقق محمد حسين الاصفهاني             (ت 1361هـ) , جاء فيه :


إن إعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب , ( فتخصيص الواضع ليس إلا اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص . ثم إنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه ، وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية سائر الدوال : كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ فإنه أيضا ينتقل من النظر إليه إلى أن هذا الموضع رأس الفرسخ . غاية الأمر : أن الوضع فيه حقيقي ، وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى : أن كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ ، فإنه كأنه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص ) () . 


 


مناقشة السيد الخوئي


 


لخّص السيد الخوئي ما أفاده أستاذه المحقق الاصفهاني في أمور ثم أخذ بمناقشتها تباعا (), أما الأمور التي أفادها الاصفهاني فهي :


 الأمر الأول : أن حقيقة الوضع ليست أمرا تسبيبيا ، بل هو أمر مباشري قائم بالمعتبر بالمباشرة . 


الأمر الثاني : أن الارتباط والاختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شئ ، بل هما من لوازمها . 


الأمر الثالث : إن سنخ الوضع في سائر الدوال حقيقي خارجي ، وفي وضع الألفاظ جعلي واعتباري  .


 ثم أخذ السيد الخوئي بمناقشة الامور المذكورة ():


أما الأمر الأول والثاني : فقد وصفهما السيد الخوئي أنهما في غاية الصحة والمتانة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع ، من دون فرق بين مسلكه ومسلك غيره .


 وأما الأمر الثالث : وهو:أن سنخ الوضع في سائر الدوال حقيقي خارجي ، وفي وضع الألفاظ جعلي واعتباري . فقد أورد عليه :


  إن تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحته في نفسه - تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامة الواضعين ، ولا سيما القاصرين منهم : كالأطفال يتلخص والمجانين ، مع أنا نرى صدور الوضع منهم كثيرا ، والحال أنهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق ، وأنه من قبيل : وضع العلم على رأس الفرسخ . غاية الأمر : أن الوضع فيه حقيقي ، وفي المقام اعتباري . ومن الواضح أنه لا يكاد يمكن أن يكون الوضع أمرا يغفل عنه الخواص فضلا عن العوام .


 


 2ـ  أن وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي:كوضع العلم على رأس الفرسخ ؛ والوجه في ذلك : هو أن وضع العلم يتقوم بثلاثة أركان :


 الركن الأول : الموضوع ، وهو العلم . 


الركن الثاني : الموضوع عليه ، وهو ذات المكان . 


الركن الثالث : الموضوع له ، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ . 


وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فإنه يتقوم بركنين : 


الأول : الموضوع ، وهو اللفظ .


 الثاني : الموضوع له ، وهو دلالته على معناه ، ولا يحتاج إلى شئ ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أنه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة ، مع أن لازم ما أفاده  : هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه .


 


ويمكن أن يضيف البحث نحواً رابعاً من أنحاء الاعتبار إضافة الى ما ذكره السيد الخوئي وهو : 


النحو الرابع للإعتبار : وهو مسلك الاقتران الأكيد للسيد محمد باقر الصدر        ( ت1400هـ) : وبيانه : 


( إن علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقا لقانون عام من قوانين الذهن البشري . والقانون العام هو أن كل شيئين إذا اقترن تصور أحدهما مع تصور الآخر في ذهن الانسان مرارا عديدة ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة وأصبح أحد الا  لتصورين سببا لانتقال الذهن إلى تصور الآخر . ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شؤون حياتهما نجدهما دائما معا ، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفردا أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصور الصديق الآخر ، لان رؤيتهما معا مرارا كثيرة أوجد علاقة بينهما في تصورنا ، وهذه العلاقة تجعل تصورنا لأحدهما سببا لتصور الآخر .


فالوضع هو عملية تقرن فيها لفظا بمعنى نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصور اللفظ دائما )().


 


ويشير البحث الى أنه لم يتم مناقشة هذا الرأي من قِبل السيد الخوئي (قده) , ويمكن للبحث إفادة ردّه من مبنى السيد الخوئي القائل: إن الارتباط بين اللفظ والمعنى هو ليس من الأمورالحقيقية ولا من الأمور الاعتبارية (), ومسلك الاقتران الأكيد هو نحو من أنحاء الإعتبار على ما صرّح به صاحبه() .


 


الرأي الثالث : نظرية التعهد 


وهو مختار السيد الخوئي(قده) في حقيقة الوضع فبعد أن أثبت السيد الخوئي بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى , وبطلان كونها بالجعل والتخصيص الالهي أو بالإعتبار , أكّد على أنّها وضعية محضة , وأنها من باب التعهّد والالتزام النفساني .


 


ويمكن للبحث أن يجعل  أركان نظرية التعهّد بعد بيان تمهيدٍ لها , كالآتي :


 


التمهيد: بطلان الآراء الأخرى في تفسير العلاقة بين اللفظ والمعنى 


فقد ذكر السيد الخوئي : ( ان ارتباط اللفظ بالمعنى ليس من الأمور الواقعية ولا من الأمور الاعتبارية وليس هو من حقيقة الوضع في شئ بل هو من شؤون الوضع وتوابعه ومن الأمور المنتزعة منه )().


 


أركان النظرية : وتتجلّى ضمن  ثلاثة محاور , هي :


 


المحور الأول : بيان الدليل الوجداني للغرض الباعث على الوضع


فقد ذكر السيد الخوئي الغرض الباعث على الوضع ووضّحه بدليل وجداني وذلك بقوله (): 


إن الإنسان مدني بالطبع يحتاج في تنظيم حياته - المادية والمعنوية - إلى آلات يبرز بها مقاصده وأغراضه ، ويتفاهم بها وقت الحاجة ، ولمّا لم يمكن أن تكون تلك الآلة الإشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلا عن المعقولات فلا محالة تكون هي الألفاظ التي يستعملها في إبراز مراداته من المحسوسات والمعقولات ، وهي وافية بهما ، ومن هنا خص - تبارك وتعالى - الإنسان بنعمة البيان بقوله عز من قائل :  (خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) () . 


 


المحورالثاني : بيان حقيقة الوضع وأنّها التعهّد 


وتضمّن ركنين , هما :


الركن الأول : إن قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد , وعليه فالدلالة الوضعية  تختص بالدلالة التصديقية , وهذا الركن هو الركن الأساسي في نظرية التعهد .


فقد فرّع السيد الخوئي على ما تقدّم من بيان الغرض الباعث على الوضع بقوله :   ( إن حقيقة الوضع هي التعهد والتباني النفساني ، فإن قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد . وإن شئت قلت : إن العلقة الوضعية - حينئذ - تختص بصورة إرادة تفهيم المعنى لا مطلقا ، وعليه يترتب اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ) ().


 


الركن الثاني : أن كلَّ متعهدٍ واضعٌ حقيقةً


وقد أثبت ذلك من خلال أمرين :


الأمر الأول : إن متعلّق هذا التعهد أمر اختياري : وهو التكلّم بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى خاص,وذلك بقوله :(إن تعهّد كل شخص فعل اختياري له ) (). 


الأمر الثاني : إن هذا التعهّد ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضية الحقيقية , وقد أشار الى هذا الأمر بقوله :


( إنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد بإبراز المعنى الذي تعلق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، فكل واحد من أهل أي لغة متعهد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص أن يجعل مبرزه لفظا مخصوصا - مثلا - التزم كل واحد من أفراد الأمة العربية بأنه متى ما قصد تفهيم جسم سيال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ الماء ، ومتى قصد تفهيم معنى آخر أن يجعل مبرزه لفظا آخر ، وهكذا . فهذا التعهد والتباني النفساني بإبراز معنى خاص بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيمه ثابت في أذهان أهل كل لغة ، بالإضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوة . نعم ، في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فردا منه في استعمال ، وفردا آخر منه في استعمال آخر ، وهكذا ) ().


ولذا يستنتج السيد الخوئي من البيان المتقدّم : إنّ كل متعهّدٍ واضعٌ حقيقةً  ؛ إذ قال : إنّ كل مستعمل واضع حقيقة ؛  فإن تعهد كل شخص فعل اختياري له ، فيستحيل أن يتعهد شخص آخر تعهده في ذمته ، لعدم كونه تحت اختياره وقدرته . نعم ، يمكن أن يكون شخص واحد وكيلا من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداء لمعانيها ، فيضعها بإزائها - أي يجعلها مستعدة لإبرازها عند قصد تفهيمها - ويتعهد بذلك ، ثم إنهم تبعا له يتعهدون على طبق تعهداته . أو يضع لغاتهم بلا توكيل من قبلهم ، بل فضوليا ، ولكنهم بعد ذلك يتبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه والتزاماته ، ومع هذا فهم واضعون حقيقة . ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللاحقة ، غاية الأمر : أن الطبقات اللاحقة تتبعها في ذلك ، بمعنى : أنهم يتعهدون على وفق تعهداتهم وتبانيهم ، وقد تتعهد الطبقات اللاحقة تعهدات أخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون إلى تفهيمها في أعصارهم ، وقد سبق * أن الوضع تدريجي الحصول ، فيزيد تبعا لزيادة الحاجة في كل قرن وزمن . ومن ذلك تبين ملاك أن كل مستعمل واضع حقيقة .


 وأما إطلاق الواضع على الجاعل الأول دون غيره فلأسبقيته في الوضع ، لا لأجل أنه واضع في الحقيقة دون غيره ().


 


المحور الثالث : ذِكر المؤيّدات لنظرية التعهّد 


ذكر السيد الخوئي (قده) ما يعضّد رأيه بالتعهد بمؤيدات عدة , وهي :


 


أولا : الموافقة للمعنى اللغوي : إذ قال :( وممّا يؤيّد أنّ الوضع بمعنى التعهّد أنّه هو الموافق لمعنى الوضع لغةً , فإنّها بمعنى الجعل والاقرار , ومنه وضع القانون بمعنى جعله وإقراره) () .


 


ثانيا : موافقة التعهد لوضع الأعلام الشخصية: إذ قال :(وضع الأعلام الشخصية , فإن كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنه إذا أراد أن يضع اسما لولده - مثلا - يتصور أولا ذات ولده ، وثانيا : لفظا يناسبه ، ثم يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شئ آخر ما عدا ذلك ) ().


 


ثالثا : استقرار السيرة العقلائية على التعهد: إذ قال : ( وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرت السيرة العقلائية في مقام الاحتجاج واللجاج ، فيحتج العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه ويؤاخذونه عليها ، وكذلك الموالي والعبيد ، فلو أن أحدا يخالف التزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه يحتج المولى عليه بمخالفته التزامه ، ويعاقب عليها ، ولا عذر له في ذلك . ولو عمل على طبق ظهوره فله حجة يحتج بها على مولاه ، وهكذا , وعلى الجملة : أن أنظمة الكون كلها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري على وفق هذه الالتزامات ، ولولاه لاختلت ) () .


ثم إن التعهد المزبور ربما يكون ابتدائيا فيكون الوضع تعيينيا وقد يكون ناشئا من كثرة الاستعمال فيكون تعيّنيا وحقيقة الوضع في كلا القسمين على نحو واحد ().


 


ومن الذين ذهبوا الى هذا المسلك من المعاصرين هو السيد محمد صادق الروحاني ( ت 1424هـ) , إذ قال : (والتحقيق ان حقيقة الوضع ، ليست الا ما اختاره جملة من أساطين المحققين، منهم صاحب تشريح الأصول* والاستاد الأعظم ، وهو التعهد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم بتفهيم المعنى وابزاره ، ويكون متعلق هذا الالتزام النفساني أمرا اختياريا ، وهو المتكلم بلفظ مخصوص عند إرادة ابراز معنى خاص ، والارتباط لا حقيقة له ، وانما ينتزع من ذلك . وهذا المعنى ، مضافا إلى كونه موافقا المعنى الوضع لغة ، وهو الجعل والاقرار ، مما يساعده الوجدان والارتكاز) ().


 ومن الواضح أن العبارة صريحة بتبنّي السيد الروحاني لمسلك التعهد وموافقته لما اختاره جملة من الأعلام ـ منهم استاذه السيد الخوئي ـ جاعلاً الوجدان والارتكاز من مؤيدات القول بالتعهد علاوة على ما تقدم من المؤيدات .  


 


رد النقوض المفترضة


ثم أخذ السيد الخوئي بدفع الإشكالات المحتملة التي قد ترد على بيانه المتقدم ,وهي :


 


النقض الأول: إشكال الدور


 بتقريب: أن تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى يتوقف على العلم بأنه وضع له . فلو فرض أن الوضع عبارة عن ذلك التعهد لدار() ؛ لأنّ التعهّد يتوقف على العلم بالوضع وهو متوقف على التعهّد .


 


رد النقض : أن ما يتوقف على العلم بالوضع إنما هو التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال ، دون التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضية الحقيقية . هذا مع أن حقيقة الوضع : عبارة عن ذلك التعهد ، ومن الظاهر أنه لا يتوقف على شئ .


ويستظهر السيد الخوئي: أن منشأ التوهم هو خلط المتوهم بين التعهد في مرحلة الاستعمال والتعهد في مرحلة الوضع ، والذي يتوقف على الثاني هو الأول دونه .


 وبتعبير آخر : أن حال الألفاظ حال الإشارات الخارجية ، فكما قد يقصد بها إبراز المعنى الذي تعلق القصد بتفهيمه مثل : ما إذا قصد إخفاء أمر عن الحاضرين في المجلس ، أو قصد تصديق شخص ، أو غير ذلك فيجعل مبرزه الإشارة باليد أو بالعين أو بالرأس فكذلك الألفاظ ، فإنه يبرز بها أيضا المعاني التي يقصد تفهيمها ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية . نعم ، فرق بينهما من ناحية أخرى ، وهي : أن الإشارة على نسق واحد في جميع اللغات والألسنة دون الألفاظ .


النقض الثاني : إن التعهد والالتزام حسب ما ارتكز في الأذهان أمر متأخر عن الوضع ومعلول له ، فإن العلم بالوضع يوجب تعهد العالم به بإبراز المعنى عند قصد تفهيمه بمبرز مخصوص ، لا أنه عينه . ومن هنا لا يصح إطلاق الواضع على غير الجاعل الأول ، فلو كان معنى الوضع ذلك التعهد والالتزام النفساني لصح إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية ، مع أن الأمر ليس كذلك ().


 


رد النقض : لو أريد بتأخر التعهد عن الوضع تعهد المتصدي الأول للوضع فذاك غير صحيح ، وذلك لأن تعهده غير مسبوق بشئ ما عدا تصور اللفظ والمعنى ، ومن الواضح أن ذلك التصور ليس هو الوضع ، بل هو من مقدماته ، ولذا لا بد منه في مقام الوضع بأي معنى من المعاني فسر . وعليه : فالمتصدي الأول له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه أن يجعل مبرزه ذلك اللفظ ، ثم يبرز ذلك التعهد بقوله : " وضعت " أو نحوه في الخارج . ومما يدلنا على ذلك بوضوح : وضع الأعلام الشخصية ، فإن كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنه إذا أراد أن يضع اسما لولده - مثلا - يتصور أولا ذات ولده ، وثانيا : لفظا يناسبه ، ثم يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شئ آخر ما عدا ذلك . وإن أريد به تعهد غيره من المستعملين فالأمر وإن كان كذلك - يعني : أن تعهدهم وإن كان مسبوقا بتعهده - إلا أنه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة ، ضرورة أن تعهد كل أحد لما كان فعلا اختياريا له يستحيل أن يصدر من غيره . غاية الأمر : التعهد من الواضع الأول تعهد ابتدائي غير مسبوق بشئ ، ومن غيره ثانوي ، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأول ().


 


النقض الثالث : أن العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الإطلاق فلا يتبادر شئ من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار ، فضلا عما إذا صدرت عن اصطكاك جسم بجسم آخر ، مع أنه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور().


 


رد النقض :أجاب السيد الخوئي على هذا الإشكال (): بأن تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير مستند إلى العلقة الوضعية ، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها ، وذلك لأن الوضع حيث كان فعلا اختياريا فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أي أثر وغرض داع إليه يصبح لغوا وعبثا .


 


المطلب الثالث : منشأ القول بالتعهّد 


 


هناك من الاصوليين مَنْ سبق السيد الخوئي (قده) الى القول بالتعهّد ,وقد اكتفى السيد الخوئي في بحثه الخارج بما لمّح به المحقق الاصفهاني وعبّر عنهم بأجلّة العصرعند نقله لقوله:( لا حاجة إلى الالتزام بأن حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلة العصر* ) () وهم :


 


 1ـ الشيخ علي بن فتح الله النهاوندي** (ت1322هـ): يُعد هو المؤسّس لهذا الرأي ؛ إذ بيّن أنّ حدّ الوضع حقيقة هو الإلتزام والتعهّد بقوله:(لا ريب في كون الغرض من الوضع ليس إلا تسهيل تفهيم المعاني بالألفاظ وصيرورة اللفظ منزلة نفس المعنى في كون إراءة نفس المعنى من حيث كون إسماعه وصدوره من اللافظ مفهما للمعنى على ذلك الغير وهذه الثمرة للوضع مشاهدة بالوجدان وهي معنى دلالة اللفظ بالوضع على المعنى المسمّاة بالدلالة اللفظية الوضعية وما ذكرناه من الواضحات وانما هو توطئة لبيان حقيقة الوضع وهي ليست إلا تعهد الواضع ) () .


كما أضاف الشيخ النهاوندي : إن غير الواضع إذا علم منه ذلك التعهد وعلم منه بتلك الارادة المستقرة المطلقة ينكشف لهذا الغير عند تلفظ الواضع بالوضع المخصوص انه اراد تفهيم معناه لأن التعهد المذكور سبب لعدم انفكاك اللفظ عن ارادة تفهيم المعنى وهو عين الملازمة بين اللفظ والارادة المذكورة ولا ريب في دلالة أحد المتلازمين على الآخر ثم حصول هذا العلم سبب لحصول غرض الواضع وهو تفهيم المعنى التصديقي.كما أكّد على عدم إمكان كون الوضع غير التعهّد المذكور ,خصوصاً بعد أن وضّح انتزاع  تخصيص اللفظ بارادة تفهيم المعنى بعد هذا التعهد والالتزام , ويحدث للتعهد المذكور عنوان ثانوي بواسطة سببيته لهذا التخصيص ؛ فيصح تعريف الوضع بأنه تخصيص شئٍ بشئ , كما إن تعريفه باحد الامور من التقييد والتعيين والتنزيل لا ينافي كونه تعهدا لكونه مسبباً عن التعهد , وأنّ التعبير عن الوضع بلفظ وضعتُ تعبيرٌ عن مسببيّته وعنوانه الثانوي فإنّ الوضع والجعل بمعنى واحد ووضعتُ هذا اللفظ لهذا المعنى يعني صيّرته اسماً لهذا المعنى وعلامة له لإرادة تفهيمه ().


 


2ـ الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر اليزدي الحائري (ت 1355هـ)


فقد ذكر مسلك التعهد في وضع الالفاظ بقوله :  ( ان يلتزم الواضع انه متى أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تكلم بلفظ كذا فإذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه فالعلاقة بين اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام ...وكيف كان الدال على التعهد تارة يكون تصريح الواضع وأخرى كثرة الاستعمال ولا مشاحة في تسمية الأول وضعا تعيينا والثاني تعيينا ) ().


وقال ايضا :(وما يتعقل في المقام بناء الواضع والتزامه بأنه متى أراد المعنى الخاص وتعلق غرضه بإفهام الغير ما في ضميره تكلم باللفظ الكذائي فبعد هذا الالتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادة المعنى المخصوص عند الملتفت بهذا البناء والالتزام وكذا الحال لو صدر ذلك اللفظ من كل من يتبع الواضع فان أراد القائل بكون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث انها مرادة هذا الذي ذكرنا فهو حق بل لا يتعقل غيره ) ().


 


3ـ الشيخ ابو المجد محمد رضا بن محمد حسين الاصفهاني النجفي (ت 1362هـ )


فبعد أن ذكرمجموعة من التعاريف للوضع على نحو الاختصاص ، أو التخصيص ، أو التعيين ، أو الارتباط ، بيّن أن المهم معرفة ما يحصل به ذلك ، ويترتب عليه المقصود من جعل الدلالة , إذ قال :( ولا يمكن جميع ذلك إلا بالتعهد أعني تعهد المتكلم للمخاطب ، والتزامه له بأنه لا ينطق بلفظ خاص إلا عند إرادته معنى خاصا ، أو أنه إذا أراد إفهامه معنى معينا لا يتكلم إلا بلفظ معين ، فمتى تعهد له بذلك وأعلمه به حصلت الدلالة وحصل الإفهام ، ولا يكاد يحصل بغير ذلك . فلنا في المقام دعويان:حصول الوضع بالتعهد المذكور ، وعدم إمكان حصوله بغيره)().فهو يؤكّد حصول الوضع بالتعهّد ولا يمكن أن يحصل بغيره ,وعليه يكون التعهد عنده تعهّد استعمال اللفظ في معنى , ولا معنى للاستعمال إلا الكشف عن المراد ().


 


يظهر مما تقدم أن الشيخ النهاوندي (ت1322هـ) هو أول من ذهب الى القول بمسلك التعهد في وضع الالفاظ ومن ثم الشيخ عبد الكريم الحائري(ت 1355هـ) والشيخ ابو المجد محمد رضا الاصفهاني( 1362هـ ) ووافقهم السيد الخوئي (قده) غاية الامر ان السيد الخوئي استطاع أن يوضّح المسلك ببيان جديد هو أمتن وأوضح من بيان السابقين عليه ,اعتمد فيه ـ كما اعتمد مَنْ سبقه خصوصا النهاوندي ـ على الوجدان ,ومشيرا الى اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ,وأن كل متعهد هو واضع حقيقة ,وأن متعلق هذا التعهد أمر اختياري ,مخالفا بذلك للمشهور عند الاصوليين في المقام , مؤيدا مختاره  بكونه موافقا للمعنى اللغوي للوضع ,والارتكاز العقلائي والفهم العرفي, مدافعا عنه بردّ الإشكالات المحتملة التي قد ترد عليه  . 


 


المطلب الرابع : مناقشة مسلك التعهّد


ذُكرت مناقشات عدة على مسلك التعهّد من قِبل أساتذة وتلامذة السيد الخوئي (قده) , من أبرزها :


 


1ـ مناقشة الشيخ النائيني (ت1355هـ)() :


إنّ دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع ، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها ؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنه لو سلّم امكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة .


 ودعوى : ان التبليغ والايصال يكون تدريجا ، مما لا ينفع ، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم ، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد .


يظهر للبحث: أنّ مناقشته هذه تستند على مبنى الشيخ النائيني: في أنّ الواضع لا يُعقل أن يكون هو الانسان بل هو الله سبحانه وتعالى , وقد تمّت مناقشة هذا الامر من قِبل السيد الخوئي واختار أن الواضع هو الانسان بما أعطاه الله سبحانه من قدرة البيان (), وعليه نستنتج أن هذه المناقشة غير تامة.


 


 


2ـ مناقشة الشيخ العراقي (ت1361هـ) : 


جاءت مناقشته ضمن محورين رئيسين():


 


الأول : إن العلاقة بين اللفظ والمعنى على القول بالتعهّد هي من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين مثل الفوقية والتحتية ونحو هما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، والحال أنّها من سنخ الاعتباريات التي تحققها يكون بالجعل كالملكية والزوجية .


يظهر للبحث: إنّ السيد الخوئي (قده) يرى أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست من الأمور الواقعية أو الإعتبارية , وليست هي من  حقيقة الوضع في شيء وإنما هي من شؤون الوضع , كما مرّ . وعليه تكون هذه المناقشة في هذا المحور غير تامة حسب مبنى السيد الخوئي . 


 


الثاني: إن إرجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم فإنه بعد إن كان مرجع التعهد المذكور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول : بأنه يُسأل عنه بأن تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو من إحتمالين :


 1ـ إما أن تكون إرادة نفسية : وهذه فيها احتمالان أيضا :


       اـ  إما أن يكون الغرض من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة :فهذا  وان كان وجه الا  ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لا يحتاج تحققها إلى كثير مؤنة ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة . نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظرا إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى ، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها .


      ب ـ وإما أن لا يكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل الغرض هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى : فهذا ينافي ما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لامن جهة مطلوبية التلفظ به نفسا , وهو  مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، لان لازم البيان المذكور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان : انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أن ذلك مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز ، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا  توسيط لفظ في البين أصلا .


2ـ واما ان تكون إرادة غيرية توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظرا إلى قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي ,فعليه نقول : بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ ـ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ـ فلابد وأن يكون نشؤها من أنحاء:


      اـ اما من قبل وضع الواضع وجعله. 


      ب ـ أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ : وهذا لا سبيل اليه لأنه بديهي الاستحالة. 


     جـ ـ أو من قبل إرادة أخرى :وهذا أيضا لا سبيل إليه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين ,مع أنه يجئ فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية.


وعليه فيتعين حينئذ المعنى الأول ـ أي أنها من قبل وضع الواضع وجعله ـ وهو المطلوب .


وفي موضع آخر يقول الشيخ العراقي : ولعل من قال بكون الوضع عبارة عن التعهد قد تسامح وأراد الاختصاص والإضافة الحاصلة به ، وكيف كان فلا يبعد أن يكون الوضع عبارة عن هذه الإضافة الحاصلة من البناء والالتزام بإفادة المعنى به عند إرادة ترك التجوز ، مع انها مقدمة على الوضع الذي يحصل بالتخصيص والتعيين ().


 


يظهر للبحث : إنّ الشيخ النهاوندي (ت1322هـ) ـ  وهو المؤسس لنظرية التعهد ـ قد صرّح بأنّ القول بالتعهد لا ينافي كون الوضع هو من باب التعيين أو التخصيص لأنّه عنوانه الثانوي المتسبّب من العنوان الأولي والذي هو الإلتزام والتعهد() , فلا تكون مناقشة الشيخ العراقي تامة في المقام.


 


كما قال الشيخ العراقي : إن من لوازم مسلك التعهد انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل().


 


يظهر للبحث : إنّ مَنْ يقول بالتعهد لابد أن تنحصر الدلالة عنده بالدلالة التصديقية ؛ وذلك من أجل أن تتحقق إرادة قصد تفهيم المعنى من اللفظ ؛ لأنّ قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد , هذا مع أن الدلالة التصورية بعد العلم بالوضع أمر قهري خارج عن الاختيار ().


 


 3ـ مناقشة السيد محمد باقر الصدر( ت1400هـ):


ذكر السيد الصدر أنّه يرد على مسلك التعهد ما يلي():


 أولا : ان المتكلم لا يتعهد عادة ، بأن لا يأتي باللفظ إلا إذا قصد تفهيم المعنى الذي يريد وضع اللفظ له ، لان هذا يعني التزامه ضمنا بأن لا يستعمله مجازا ، مع أن كل متكلم كثيرا ما يأتي باللفظ به تفهيم المعنى المجازي ، فلا يحتمل صدور الالتزام الضمني المذكور من كل متكلم .


 


يظهر للبحث : إنّ السيد الخوئي قد أجاب عن هذا الأمر بأنّ الإستعمال المجازي يقيّد بوجود القرينة , ومع عدمها يكون الإستعمال حقيقيا().


وثانيا : أن الدلالة اللفظية والعلقة اللغوية بموجب هذا المسلك تتضمن استدلالا منطقيا وإدراكا للملازمة وانتقالا من أحد طرفيها إلى الآخر ، مع أن وجودها في حياة الانسان يبدأ منذ الأدوار الأولى لطفولته وقبل أن ينضح أي فكر استدلالي له ، وهذا يبرهن على إنها أبسط من ذلك.


مع أن الوضع إذا كان هو الاعتبار أو التعهد ، فلا يمكن أن تنشأ عن كثرة الاستعمال مباشرة ، لوضوح أن الاستعمال المتكرر لا يولد بمجرده اعتبارا ولا تعهدا ، فلا بد من إفتراض أن كثرة الاستعمال تكشف عن تكوّن هذا الاعتبار أو التعهد ، فالفرق بين الوضعين في نوعية الكاشف عن الوضع.


 


4ـ مناقشة السيد علي السيستاني (معاصر)


جعل السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه ) نظرية التعهد على ثلاثة صُعد محتملة ,ثمّ أخذ بمناقشتها تباعا ,وهي كما يأتي  () :


 


1ـ إما أن تُلاحظ  نظرية التعهد على صعيد الوضع بالمعنى المصدري : فصياغة التعهد في تلك المرحلة - وهي مرحلة الانتخاب والجعل - مجرد اعتبار أدبي كسائر الاعتبارات الأدبية الأخرى لكن لا يوجد له مصحح بخصوصه ، فإن الاعتبار الأدبي يحتاج لمصحح معين له من بين الاعتبارات الأدبية المختلفة ولا يوجد ذلك بالنسبة لصياغة التعهد ، فإن الهدف من هذا الاعتبار الأدبي هو التوصل والتمهيد للعلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى ، وهذا مصحح مشترك بين مسلك التعهد وغيره من الاعتبارات الأخرى. 


 


2ـ أو تُلاحظ على مستوى الوضع بالمعنى الاسم المصدري : وهو عبارة عن الدلالة التصورية التي هي عبارة عن التلازم** أو الهوهوية ***:


 فقد ذكر السيد الخوئي ( قده ) ان الدلالة التصورية منتزعة من مسلك التعهد ، أي ان الذهن إذا رأى واضعا يتعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة المعنى فإنه ينتزع من هذا التعهد تصور المعنى ، فالدلالة التصورية أمر انتزاعي من نفس عملية التعهد . 


ولكن يلاحظ على ذلك : ان الامر الانتزاعي واقعيته بمنشأ انتزاعه وإذا ارتفع منشأ انتزاعه فلا وجود له ، بينما نرى بالوجدان ان حصول الدلالة التصورية سواء أكانت هي التلازم أو الهوهوية لا تتوقف على التعهد بل تتوقف على مرحلة الإشارة، وهي العوامل الكمية أو الكيفية المولدة للعلاقة بين اللفظ والمعنى سواءا وجد تعهد أم لا ، فقد يوجد تعهد ولا تحصل هذه العلاقة لعدم جري المجتمع وفق ذلك التعهد وعدم احترامه وقد لا يوجد تعهد لكنها حاصلة بسبب العوامل الأخرى ، فبينهما عموم من وجه ، وحينئذ فلا تتوقف الدلالة التصورية على التعهد توقف المنتزع على المنتزع منه . وقد اعترف بذلك السيد نفسه في تعليقته على أجود التقريرات ، حيث ذكر أن منشأ الدلالة التصورية هو كثرة الاستعمال مع أنه ذكر في التعليقة نفسها أنها منتزعة من عملية التعهد() .


 


ثم يعرض السيد السيستاني إشكالاً مقدّراً ويجيب عليه :


الإشكال : لو قصدنا بالتعهد التعهد الشخصي من قبل الواضع فحينئذ لا نرى تلازما بينه وبين الدلالة التصورية كما ذكرتم في الاعتراض ، لعدم توقف الدلالة التصورية على ذلك بل على العوامل الأخرى ، ولكن المقصود بالتعهد هو التعهد العقلائي العام ، أي تعهد الواضع والمستعمل أيضا بالصياغة المذكورة ، وإذا كان المقصود بالتعهد هو هذا فهو نفس كثرة الاستعمال فإن كثرة الاستعمال عبارة أخرى عن تعهد المجتمع بما تعهد به الواضع ، فلا تهافت بين الكلامين في عبارات السيد ( قده ) ، ولا ينتفي بذلك كون علاقة الدلالة التصورية بالتعهد علاقة المنتزع بالمنتزع منه .


جواب الإشكال


أولا : لو سُلّم ما ذكر لكن يبقى ان علاقة الدلالة التصورية بكثرة الاستعمال أو غيرها من العوامل علاقة المسبب بسببه لا علاقة المنتزع بالمنتزع منه كما هو واضح .


وثانيا : ان السبب المعد للعلاقة التصورية ليس هو التعهد النفسي ، سواء أكان من الواضع أم من المجتمع ، بل هو نفس ذكر اللفظ مع القرينة بقصد الإشارة للمعنى فإن هذا هو الدخيل في حصول العلاقة التصورية ، سواء أكان هناك تعهد نفساني من قبل المجتمع أم لم يكن ، فالتعهد نفسه لا دخالة له اطلاقا في حصول هذه الدلالة التصورية لا على نحو الانتزاع ولا على نحو السببية . 


وثالثا : أن دعوى كون التعهد تعهدا اجتماعيا عاما لا نرى له شواهد وملامح في المجتمع العقلائي ، بل نرى المجتمع يسير على نهج الاستعمال التابع لما حدده الواضع من دون قيامه بتعهد نفساني كما هو المدعى .


 


يظهر للبحث : إنّ سير المجتمع على نهج الاستعمال التابع لما حدّده الواضع يستبطن قهرا التعهد النفساني من مستعمِل اللفظ .


 


3ـ أو أن تلاحظ نظرية التعهد على صعيد استكشاف المدلول التفهيمي :


فيرد عليه : أن الطريق لاستكشاف كون المتكلم قاصدا تفهيم المعنى لا ينحصر في العلم بالتعهد بل له طريق آخر وهو قانون السببية ، فهذا القانون يستكشف الانسان به المدلول التفهيمي وكون المتكلم قاصدا للتفهيم ، سواءا كان هناك تعهد أم لم يكن.


 اذن فلا يوجد مبرر لنظرية التعهد على مختلف الأصعدة .


 


 


 


 


5ـ مناقشة السيد كاظم الحائري (معاصر)


بيّن السيد الحائري أنّ مسلك التعهد يرجع الى ثلاثة محاور أساسية , ثم أخذ بمناقشتها () وهي:


أولا :  إنّ التعهدّ عبارة عن ملازمة قائمة بين طرفين: أحدهما اللفظ، والآخر قصد تفهيم المعنى على نحو القضية الشرطية;وهي  متى ما قصد تفهيم المعنى الفلانيّ أتى باللفظ الفلانيّ لأنّ هذين الأمرين هما طرفا التعهّد.


 ثانيا : أنّ الدلالة التي نشأت ببركة هذا التعهّد ليست مجرّد دلالة تصوّريّة، بل دلالة تصديقيّة ; فإنّ الدلالة التصوّريّة هي انتقاش المعنى من اللفظ في الذهن ولو صدر عن حجر، والدلالة التصديقيّة هي دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وإخطاره، وطرف الملازمة كان هو الثاني. إذن، فالوضع يتكفّل بالدلالة التصديقيّة، وطبعاً يوجد في ضمنها الدلالة التصوّريّة.


ثالثا : أنّ كلّ واحد من أهل اللغة فهو واضع، فالمستعمل للفظ هو واضع أصلي ومن يأتي من بعدهم في الأجيال اللاحقة هم  واضعون بالتبع والمشايعة.


 


وقد توسّع السيد الحائري في مناقشة المحور الأول وهي القضية الشرطية بإرجاعها الى ثلاث صيغ محتملة, هي :


1ـ إما أن يكون الشرط عبارة عن قصد تفهيم المعنى , والجزاء هو الإتيان باللفظ , وهذا هو المطابق لكلمات السيد الخوئي , وهذا أمر معقول في نفسه لكنّه لا يفيد المقصود , وهو دلالة اللفظ على المعنى ؛ فإنّ التعهّد بقضية شرطية إنّما يوجب دلالة الشرط على الجزاء لا دلالة الجزاء على الشرط , والشرط هنا هو قصد تفهيم المعنى , والجزاء هو الاتيان باللفظ , فلو عرفنا صدفة أنّ هذا الانسان قاصد لتفهيم معنىً دلّنا ذلك أنّه سوف يأتي باللفظ , وأما الاتيان باللفظ فليس دليلاً على أنّه قصد المعنى ؛ إذ قد يكون الإتيان باللفظ لازماً أعمّ لقصد المعنى .


والحاصل أنّه لم يتعهد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد المعنى حتى يكون إتيانه باللفظ دليلاً على قصد المعنى .


 


يظهر للبحث : إن مراد السيد الخوئي هو ليس هذه الصيغة بل الصيغة الثانية بدليل قوله :( فإن المتكلم قد تعهد بأنه إذا تكلم بلفظ فلاني فإنه أراد المعنى الفلاني) ().


 


2ـ  عكس الأول , وذلك بأن يكون الشرط هو الإتيان باللفظ , والجزاء هو قصد تفهيم المعنى , فهو متعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد تفهيم المعنى , وحتى لو صدر عنه اللفظ غفلة فسوف يُحدث في نفسه قصد تفهيم المعنى وفاءً بتعهده .


وهذا يفيد المقصود ويوجب دلالة اللفظ على المعنى , لكنّه ليس أمراً عقلائياً ؛ فإنّ التلفظ هو الذي يكون قصد تفهيم المعنى, وليس قصد تفهيم المعنى في طول اللفظ, وأيّ عاقل يُلزم نفسه بأن يُحدث قصد تفهيم المعنى عندما يصدر عنه اللفظ ولو غفلة؟!


يظهر للبحث : إنّ القصد في " قصد تفهيم المعنى " يُلغي إحتمال الغفلة .


3ـ أن يكون الشرط عبارة عن عدم كونه قاصداً لتفهيم المعنى , والجزاء عبارة عن عدم التلفّظ باللفظ. إلاّ أنّ هذا غير واقع خارجاً ؛ فإنّ هذا لا ينسجم مع الاستعمال المجازي الذي باب من أبواب اللغة , والعاقل الباني على الاستعمال المجازي كيف يأتّى منه التعهد بعدم استعمال كلمة " أسد " مثلاً إلاّ حين إرادة تفهيم الحيوان المفترس ؟!


وقد ذكر السيد الحائري هذا الإشكال على مبنى التعهّد بصيغه الثلاث مشافهة على مسامع السيد الخوئي (قده) فذكر في مقام الجواب صيغة رابعة أو تعديلاً للصيغة الثالثة (), وذلك بأن يُقال:


 


إنّ الواضع يتعهّد بأن  لا يأتي باللفظ إلاّ إذا قصد المعنى الحقيقي , ويستثنى من ذلك فرض إقامة القرينة.وبكلمة أخرى: أنّه يتعهّد بأن لا يأتي بلفظة " أسد " مثلاً في إحدى حالتين:


الأولى : أن يقصد تفهيم الحيوان المفترس.


والثانية : أن يقصد تفهيم الرجل الشجاع مع إنضمام القرينة , فإذا لم يأت بقرينة على المعنى المجازي تعيّن قصده لتفهيم الحقيقي.


 


وقد أورد السيد الحائري على هذه الصيغة الرابعة ما يلي :


أولاً : أنّه سواء اُريد بالقرينة القرينة المتصلة أو اُريد بها الأعم من القرينة المتصلة والمنفصلة لا تكفي هذه العناية ـ أعني : عناية استثناء فرض إقامة القرينة ـ لتصحيح مبنى التعهّد ؛ لوضوح : أنّ المستعمل اللغوي قد يستعمل المجاز بلا قرينة حينما يتعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال, فهذا التعهّد خلف بنائه ولو احتمالاً على الاستعمال المجازي بلا قرينة.فهذا المقدار من العناية لا يفي بتصحيح التعهّد ما لم تبذل عنايات إضافية أخرى :كأن يستثنى أيضاً فرض تعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال , ويستعان في مقام تميم الدلالة بالبناء على عدم إرادة الإجمال او الإهمال على أساس ندرة هذه الحالة .


وثانياً: أنّه هل المراد بالقرينة خصوص القرينة المتصلة أو الأعم من المتصلة والمنفصلة ؟ فإن اُريد خصوص القرينة المتصلة كان هذا تعهّداً ضمنياً بإلغاء القرائن المنفصلة.ومن الواضح:أنّه كثيراً ما يعتمد على القرينة المنفصلة .


وإن اُريد الأعم من القرينة المتصلة والمنفصلة لزم من ذلك أنّه متى ما سمعنا كلاماً من المتكلم واحتملنا أنّه سوف يقيم قرينة منفصلة على إرادة المعنى المجازي لم يجز حمل كلامه على المعنى الحقيقي , ولم نحرز دلالة  اللفظ على معناه الموضوع له ؛ وذلك لأنّ الدلالة على المعنى الموضوع له فرع التعهّد , والتعهّد بذلك قد قيّد بحالة عدم القرينة ولو المنفصلة , فع احتمال ورود ااقرينة المنفصلة في المستقبل لا نجزم بالتعهّد بغرادة المعنى الموضوع له,فلا نجزم بالدلالة, مع أنّه لا إشكال في هذه الحالة في حمل الكلام على المعنى الموضوع له. 


  


يظهر للبحث : إنّ المتكلّم حينما يُنهي كلامه دون الإتيان بقرينة متصلة فإنّه ينعقد لكلامه ظهور , وبالتالي يتم قصد تفهيم المعنى , غاية الأمر إذا جاءت القرينة المنفصلة بعد ذلك ينهدم الظهور الأولي وينعقد ظهورا آخرا يكون هو المقصود الجدي للكلام الأول . 


 


 


نتائج البحث


 


انتهى البحث الى نتائج عدة , هي :


1ـ أن الضابطة في المدرسة هي: أن تمتاز بالتجديد الفكري في جانب من جوانب العلوم المتعددة سواءً كان على مستوى الإبداع والإضافة المعرفية أم على مستوى التنظيم والتبويب والمنهج .


وليس بالضرورة أن تكون هذه الاضافة المعرفية أفقية أي بإضافة آراء ونظريات جديدة بل قد تكون الإضافة عمودية وذلك بزيادة بيانٍ وإيضاح للمطالب العلمية الدقيقة .


2ـ أن تُخرّج هذه المدرسة شخصية أو أكثر من الشخصيات العلمية التي يكون لها أثر واضح وفعّال في الساحة العلمية , وان تُثمر عن مؤلفات علمية تكون معينا للأجيال اللاحقة في مجال العلوم الإنسانية أو التخصصية الشرعية .


3ـ أن يكون للمدرسة رائدٌ أو أكثر يمتاز بالنبوغ العلمي والفكري , عليه المعوّل في أصالة وجدّة المدرسة بحيث يكون عنصر استقطاب لطلاب العلم والمعرفة .


4ـ ليس بالضرورة أن تتصف المدرسة بالإستقلالية التامة عمّن سبقتها من المدارس بل قد تكون امتدادا واستمرارا للمدرسة السابقة , لما فيها من تطويرٍ لمبانيها وجدّة في تطبيقاتها , وإن اتبعت نفس الأسس في فلسفة بنائها.


5ـ إنّ منشأ نظرية التعهّد ومؤسّسها هو الشيخ علي بن فتح الله  النهاوندي                       (ت1322هـ) ومن ثم تبنّاها الشيخ عبد الكريم الحائري (ت 1355هـ) والشيخ ابو المجد محمد رضا الاصفهاني النجفي ( 1362هـ ).


6ـ تبنّى السيد الخوئي (قده) نظرية التعهّد في وضع الألفاظ ووضّحها ببيان اصولي محكم , وأضاف فيها إضافاتٍ معرفية عمودية ؛ فيكون مجددا فيها .


7ـ ردّ  السيد الخوئي (قده) الإشكالات التي قد ترد على ما اختاره من مسلك التعهّد في وضع الالفاظ .


8ـ إنّ كثرة المناقشات حول نظرية التعهّد من أساتذة وتلامذة السيد الخوئي تعكس أهمية هذا الرأي في البحث الأصولي . 


 


 


 


 


 


                                       الهوامش